هجوم على الحقيقة.. كيف تفتح العقوبات الأمريكية على ألبانيز باباً لإسكات الحقوقيين؟
هجوم على الحقيقة.. كيف تفتح العقوبات الأمريكية على ألبانيز باباً لإسكات الحقوقيين؟
في خطوة أثارت موجة من الانتقادات الحقوقية داخل الولايات المتحدة وخارجها، فرضت الإدارة الأمريكية عقوبات على فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وهو قرارٌ وُصف بأنه يشكّل سابقة خطيرة ليس فقط لاستهداف مقرّري الأمم المتحدة بل وللإجهاز على ما تبقى من مساحةٍ دوليةٍ لمحاسبة الانتهاكات الجسيمة بحق المدنيين الفلسطينيين.
وفي بيان مشترك صدر مؤخرًا، عبرت أكثر من عشرين منظمة مجتمع مدني أمريكية ودولية للتعبير عن قلقها العميق من هذا الإجراء، معتبرةً أن العقوبات لا تستهدف ألبانيز وحدها بل تهدف لتقويض الإجراءات الخاصة للأمم المتحدة برمتها.
وتقول هذه المنظمات إن المقررين الخاصين يجب أن يُدعموا، لا أن يُعاقبوا، إذ إن عملهم يعدّ من آخر خطوط الدفاع عن مبدأ المساءلة الدولية أمام انتهاكات حقوق الإنسان التي تُرتكب أحيانًا بغطاء من القوى الكبرى.
من هي فرانشيسكا ألبانيز؟
فرانشيسكا ألبانيز محامية وخبيرة دولية متخصصة في القانون الدولي الإنساني، عُينت مقررة خاصة من قبل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لتوثيق حالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967.
على مدى سنوات، أصدرت ألبانيز تقارير جريئة حمّلت إسرائيل مسؤولية انتهاكات منهجية قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ودعت مرارًا إلى التحقيق في شبهات الإبادة الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
لم يكن فرض العقوبات خطوة معزولة، بل يأتي ضمن نمطٍ متكررٍ من التضييق والضغط. بحسب الخدمة الدولية لحقوق الإنسان (ISHR)، تعرض مقرّرون آخرون للتهديد والضغط من دول كبرى عندما أصدروا تقاريرهم المستقلة التي تنتقد سياسات هذه الدول أو حلفائها، ويُعد استهداف ألبانيز حلقة جديدة في هذه السلسلة من المحاولات الرامية إلى إخضاع منظومة حقوق الإنسان الدولية لمنطق المصالح السياسية.
تهديد للتعددية وحقوق الإنسان
تشير المنظمات إلى أن هذا الاستهداف يهدد ركيزة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ويقوّض مبدأ التعددية الذي يستند إليه النظام الدولي القائم على القواعد، يقول بيان شبكة "سيفيكوس"، وهي شبكة عالمية للمجتمع المدني: "إن أعمال الترهيب والانتقام ضد الإجراءات الخاصة لا تضعف صوت المقررين الأممين فقط، بل تُرهب المجتمع المدني الذي يمدّ هذه الإجراءات بالمعلومات والشهادات"، من دون هذا التعاون تفقد الأمم المتحدة إحدى أهم أدواتها للكشف عن الانتهاكات والضغط من أجل التغيير.
يأتي ذلك في وقتٍ تشهد فيه الأراضي الفلسطينية واحدة من أعنف موجات القمع والتدمير منذ عقود. فقد استشهد خلال حتى الآن أكثر من 59 ألف مواطن وأصيب أكثر من 141 ألف شخص بينهم نساء وأطفال، بحسب تقارير وزارة الصحة في غزة فيما نزح أكثر من مليوني شخص من منازلهم في غزة وحدها بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية، وسط تقارير متكررة عن هجمات قد ترقى إلى جرائم حرب.
تضييق على المجتمع المدني
يتخوّف المدافعون عن حقوق الإنسان من أن هذه العقوبات تُعطي إشارة خطيرة للأنظمة حول العالم بأن انتقاد القوى الكبرى أو حلفائها قد يكون ثمنه العزل والاستهداف، فقد حذرت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية من أن مثل هذه الإجراءات قد تشجع دولًا أخرى على استهداف المقررين الخاصين أو الصحفيين والناشطين المحليين بذريعة التدخل في الشؤون الداخلية أو الإضرار بالأمن القومي.
اللافت أن الرد الأمريكي الحقوقي جاء حازمًا، إذ انضم الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU) ورابطة الحقوقيين الأمريكيين (AAJ) إلى قائمة الموقعين، ما يعكس حجم القلق داخل الولايات المتحدة نفسها من المساس بحرية التعبير والعمل الحقوقي، وشددت هذه المنظمات في بياناتها على أن العقوبات تمثل انتهاكًا صارخًا لحرية الرأي وحق المقررين المستقلين في أداء مهامهم دون ترهيب أو عرقلة.
خلال الأشهر الماضية، عبّرت لجنة تنسيق الإجراءات الخاصة ومكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان عن قلقهما المتزايد من التضييق المالي والسياسي على مقرري الأمم المتحدة، وحذّر تقرير صادر عن مجلس حقوق الإنسان في دورته الأخيرة من أن استقلالية المقررين الخاصين مهددة بشكل غير مسبوق منذ عقود، في وقتٍ يشهد فيه العالم تصاعد النزاعات المسلحة وتراجع الحريات والحقوق الأساسية في أكثر من 70 دولة حول العالم.
لماذا هذا التصعيد الآن؟
يرى مراقبون أن هذه الخطوة تأتي في سياق تزايد الضغط على أي أصوات تنتقد سياسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، خاصة بعد أن اتسعت المطالبات الدولية بفتح تحقيقات جنائية جدية في مزاعم الإبادة الجماعية، فبينما تسعى واشنطن إلى حماية حليفتها من الملاحقات، تجد نفسها في موقفٍ متناقض مع القيم التي تدافع عنها كحامية لحرية التعبير وحقوق الإنسان.
ومع تزايد الضغوط، يخشى نشطاء حقوق الإنسان من أن يصبح منصب المقرّر الخاص في قضايا حساسة هدفًا دائمًا للعقوبات أو الحملات التشويهية، وهو ما قد يدفع بعض الخبراء إلى العزوف عن قبول هذه المهام، ويؤكد معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان أن كسر هيبة المقررين الخاصين يعني حرمان الضحايا من صوتٍ مستقل ينقل معاناتهم إلى العالم.
ويؤكد مراقبون أن قضية فرانشيسكا ألبانيز ليست سوى وجهٍ لمعركةٍ أوسع من أجل حرية الحقيقة واستقلالية المنظمات والهيئات التي تراقب وتحاسب وتدافع عن أصوات لا تملك منبرًا آخر.